الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَلَوْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» لَمَا جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ إلَّا عِنْدَ خَوْفِ الْعَطَشِ لِأَنَّ الْجَوَابَ مُرْتَبِطٌ بِالسُّؤَالِ.وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَدَأَ بِتَأْسِيسِ الْحُكْمِ وَبَيَانِ الشَّرْعِ؛ فَقَالَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».فَزَادَ فِي جَوَابِ السَّائِلِ جَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ» ابْتِدَاءً.الثَّانِي: «الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالٍ؛ فَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} إنْ كَانَ الصَّيْدُ الْفِعْلَ فَمَعْنَاهُ مَعَ الِاصْطِيَادِ كُلِّهِ عَلَى أَنْوَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الصَّيْدِ الْمَصِيدَ عَلَى مَعْنَى تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ الْمُتَعَلِّقَاتِ لِلتَّكْلِيفِ بِالْأَفْعَالِ، وَتَفْسِيرُ وَجْهِ التَّعَلُّقِ؛ فَصَارَ الصَّيْدُ فِي الْبَرِّ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ مُمْتَنِعًا بِكُلِّ وَجْهٍ، وَكَانَتْ إضَافَتُهُ إلَيْهِ كَإِضَافَةِ الْخَمْرِ إلَى الْمُكَلَّفِينَ وَالْمَيْتَةِ؛ إذْ إنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُحَرَّمَاتِ.وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْقَاحَةِ وَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ إذْ أَبْصَرْت أَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ، فَنَظَرْت فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ، فَأَسْرَجْت فَرَسِي، وَأَخَذْت رُمْحِي، ثُمَّ رَكِبْت، فَسَقَطَ سَوْطِي، فَقُلْت لِأَصْحَابِي وَكَانُوا مُحْرِمِينَ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ.فَقَالُوا: وَاَللَّهِ لَا نُعِينُك عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَنَزَلْت فَتَنَاوَلْته، ثُمَّ رَكِبْت فَأَدْرَكْته مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ وَرَاءَ أَكَمَةٍ، فَطَعَنْته بِرُمْحِي، فَعَقَرْته، فَأَتَيْت بِهِ أَصْحَابِي، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلُوهُ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَأْكُلُهُ.وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَنَا، فَحَرَّكْت دَابَّتِي فَأَدْرَكْته، فَقَالَ: هُوَ حَلَالٌ، فَكُلُوهُ».وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ؟ قَالُوا: لَا.قَالَ: فَكُلُوا.هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: مَعَنَا رِجْلُهُ.قَالَ: فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَهَا».وَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ «أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ.قَالَ: فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي وَجْهِهِ مِنْ الْكَرَاهَةِ قَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ».وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ».قَالَ أَبُو عِيسَى: هُوَ أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ.وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ عُثْمَانَ فَأُتِيَ عُثْمَانُ بِلَحْمِ صَيْدٍ صَادَهُ حَلَالٌ، فَأَكَلَ عُثْمَانُ، وَأَبَى عَلِيٌّ أَنْ يَأْكُلَ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا صِدْنَا وَلَا أَمَرْنَا وَلَا أَشَرْنَا.فَقَالَ عَلِيٌّ: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا.وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: إنَّمَا صِيدَ قَبْلَ أَنْ نُحْرِمَ؛ فَقَالَ عَلِيٌّ: وَنَحْنُ قَدْ بَدَأْنَا وَأَهْلَلْنَا وَنَحْنُ حَلَالٌ، أَفَيَحِلُّ لَنَا الْيَوْمَ؟ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ لَحْمَ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، أُخِذَ لَهُ أَوْ لَمْ يُؤْخَذْ، وَإِنْ صَادَهُ الْحَلَالُ.وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ.وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ مِثْلُهُ.وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ الْفِعْلُ بِقَوْلِهِ صَيْدُ الْبَرِّ، أَوْ الْمُحَرَّمَ مُضْمَرٌ؛ وَالْمُرَادُ بِالصَّيْدِ الْمَصِيدُ، وَاَلَّذِي ثَبَتَ عَلَى الدَّلِيلِ أَنَّ حُكْمَ التَّحْرِيمِ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِالْمَصِيدِ لَا بِالصَّيْدِ؛ فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ يَتَعَلَّقُ بِتَنَاوُلِ الْحِيلَةِ فِي تَحْصِيلِهِ أَوْ بِقَصْدِ تَنَاوُلِ الْحِيلَةِ فِي تَحْصِيلِهِ لَهُ، بَيَّنَ ذَلِكَ حَدِيثُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ»؛ فَإِذَا لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمُحْرِمُ صَيْدَهُ بِنَفْسِهِ وَلَا قَصَدَ بِهِ حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ وَلَا مِلْكُهُ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهُ عَلَى الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ لِأَنَّهُ كَانَ حَيًّا»، وَالْمُحْرِمُ لَا يَمْلِكُ الصَّيْدَ.وَقِيلَ: إنَّمَا رَدَّهُ لِأَنَّهُ صِيدَ لَهُ، وَيَكُونُ بِذَلِكَ دَاخِلًا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا لَمْ يُعَنْ فِيهِ بِدَلَالَةٍ وَلَا سِلَاحٍ جَازَ لَهُ أَكْلُهُ، وَإِنْ كَانَ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ.وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ».الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إذَا أَحْرَمَ وَفِي مِلْكِهِ صَيْدٌ: فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَحِلُّ لَهُ إمْسَاكُهُ وَيَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ.وَالْآخَرُ يُمْسِكُهُ حَتَّى يَحِلَّ فِي تَفْصِيلٍ بَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ.وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ مِثْلُهُمَا.وَجْهُ الْقَوْلِ بِإِرْسَالِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}.وَهَذَا عَامٌّ فِي مَنْعِ الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ كُلِّهِ.وَجْهُ الْقَوْلِ بِإِمْسَاكِهِ أَنَّهُ مَعْنَى يَمْتَنِعُ مَعَ ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ، فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ اسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ؛ أَصْلُهُ النِّكَاحُ.الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فَإِنْ صَادَهُ الْحَلَالُ فِي الْحِلِّ، فَأَدْخَلَهُ فِي الْحَرَمِ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَبْحِهِ وَأَكْلِ لَحْمِهِ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ؛ وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ مَعْنَى يَفْعَلُ فِي الصَّيْدِ؛ فَجَازَ فِي الْحَرَمِ الْحَلَالُ كَالْإِمْسَاكِ وَالشِّرَاءِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِمَا.قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَلِأَنَّ الْمَقَامَ فِي الْحَرَمِ يَدُومُ، وَالْإِحْرَامُ يَنْقَطِعُ، فَلَوْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ لَأَدَّى إلَى مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ، فَسَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْهُ فِيهِ لِذَلِكَ.وَهَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَصَالِحِ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالْمَصْلَحَةُ مِنْ أَقْوَى أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ.الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إذَا كَانَ الْمُحْرِمُ مُحْرِمًا بِدُخُولِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِاصْطِيَادُ فِيهِ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ.وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ عَبْدُك وَخَلِيلُك حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ بِمِثْلِ مَا حَرَّمَ بِهِ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَمِثْلُهُ مَعَهُ؛ لَا يُقْطَعُ عِضَاهُهَا وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا».وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ، خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ: وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: إذَا صَادَ بِالْمَدِينَةِ كَانَ آثِمًا وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَزَاءٌ إنْ قَتَلَهُ بِهَا.وَقَالَ سَعْدٌ: جَزَاؤُهُ أَخْذُ سَلَبِهِ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ.أَمَّا قَوْلُ سَعْدٍ: فَإِنَّ مُسْلِمًا خَرَّجَ عَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا صَادَ بِالْمَدِينَةِ فَلَقِيَهُ سَعْدٌ فَأَخَذَ سَلَبَهُ فَكُلِّمَ فِي رَدِّهِ، فَقَالَ: مَا كُنْت لِأَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»؛ وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِسَعْدٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ مَنْ لَقِيَ صَائِدًا بِالْمَدِينَةِ فَلْيَسْتَلِبْهُ ثِيَابَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ.وَأَمَّا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ فَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ حَرَمٌ، فَكَانَ الْجَزَاءُ عَلَى مَنْ قَتَلَ فِيهِ صَيْدًا، كَمَا يُفْعَلُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ.وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَوْ كَانَ حَرَمُ الْمَدِينَةِ كَحَرَمِ مَكَّةَ مَا جَازَ دُخُولُهَا إلَّا بِالْإِحْرَامِ، فَافْتَرَقَا.وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَزَاءَ الْمُتَعَدِّي فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ: «مَنْ أَحْدَثَ أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا».فَأَرْسَلَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَفَّارَةَ.الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إذَا دَلَّ الْحَرَامُ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ الْحَلَالُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا؛ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.وَقَالَ أَشْهَبُ: يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.وَالْمَسْأَلَةُ غَامِضَةُ الْمَأْخَذِ بَعِيدَةُ الْغَوْرِ، وَلِعُلَمَائِنَا فِيهَا ثَلَاثَةُ طُرُقٍ بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.أَقْوَاهَا طَرِيقُ مَنْشَأِ غَوْرٍ.وَقَالَ الْجَوْنِيُّ: الضَّمَانُ إنَّمَا يَجِبُ فِي الشَّرِيعَةِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إمَّا بِإِتْلَافٍ مُبَاشِرٍ، كَالْقَتْلِ.أَوْ بِتَلَفٍ تَحْتَ يَدٍ عَادِيَةٍ، كَمَا لَوْ مَاتَ الْحَيَوَانُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ.أَوْ بِسَبَبٍ يَتَعَلَّقُ بِالْفَاعِلِ؛ كَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي جِهَةِ التَّعَدِّي؛ وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَبَطَلَ تَعَلُّقُ الْجَزَاءِ بِهِ.وَعَوَّلَ مَنْ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْمُتَقَدِّمِ: «هَلْ أَشَرْتُمْ؟ هَلْ أَعَنْتُمْ؟» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ لَوْ أَشَارَ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ.قُلْنَا: إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ؛ فَأَمَّا عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ فَلَا.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْحَيَوَانِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، هَلْ يَحِلُّ صَيْدُهُ لِلْمُحْرِمِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ أَمْ لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَرِّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ.وَالصَّحِيحُ مَنْعُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ فِيهِ دَلِيلَانِ: دَلِيلُ تَحْلِيلٍ، وَدَلِيلُ تَحْرِيمٍ، فَغَلَّبْنَا دَلِيلَ التَّحْرِيمِ احْتِيَاطًا؛ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَا أَخْرَجَ مِنْ اللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ مِنْ الْبَحْرِ يُخَمَّسُ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ؛ لِأَنَّ الْبَحْرَ شَبِيهُ الْبَرِّ وَقَسِيمُهُ وَنَظِيرُهُ؛ إذْ الدُّنْيَا بَرٌّ وَبَحْرٌ، فَنَقُولُ: فَائِدَةُ أُخْرِجَتْ مِنْ الْبَاطِنِ فَوَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ، أَصْلُهُ الرِّكَازُ، أَوْ لِأَنَّهُ أَحَدُ قِسْمَيْ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ، فَجَازَ أَنْ يَجِبَ حَقُّ اللَّهِ فِيمَا يُوجَدُ فِي بَاطِنِهِ، أَصْلُهُ الرِّكَازُ.وَالتَّعْلِيلُ لِلْبَحْرِ.وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَا زَكَاةَ فِي الْعَنْبَرِ، إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَقْذِفُهُ الْبَحْرُ» وَلِأَنَّهُ مِنْ فَوَائِدِ الْبَحْرِ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ حَقٌّ أَصْلُهُ السَّمَكُ.وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَحْرَ لَمْ يَكُنْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ فَتَجْرِي فِيهِ الْغَنِيمَةُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُبَاحِ الْمُطْلَقِ، كَالصَّيْدِ.فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي ذَهَبٍ يُوجَدُ فِي الْبَحْرِ؟ قُلْنَا: لَا رِوَايَةَ فِيهِ.وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْبَحْرَ لَيْسَ بِمَعْدِنٍ لِلذَّهَبِ، فَوُجُودُهُ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّيُولَ قَذَفَتْهُ فِيهِ.وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يَحْتَمِلُ أَلَّا يَجِبَ فِيهِ شَيْءٌ لِأَنَّ فِي الْبَحْرِ جِبَالًا لَا يَدَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا. اهـ.
|